يرن هاتفي كالعادة و يبدأ المنبه في الرقص على أمجاد إزعاجي و النيل منّي مرة آخرى.. "تبا، إنها الساعة السابعة و الربع.. أعتقد أنني سأجبر على الإستيقاظ في تمام هذه الساعة لعقود.. و سوف لن أتمتع أبدا بقسطٍ وفير من الراحة"
عملتُ خطايَ البطيئة المعتادة نحو المرآة حتى أتلذذ جمالي العشريني الذي ألاطفه كل صباح.. أخذتُ نفسًا عميقا و رسمتُ إبتسامتي المعتادة التي فيها إعتراف صريح بالإستعداد لقضاء يومٍ شيقٍ و جميل رغم معاناتي اليومية من المواصلات و عدم كفاية المال الذي أغادر به شقتي يوميا و رغم أنف الساسة و العامة و الحشود العمياء التي أتعامل معها يوميا و التي إكتشفت في مناسبات عديدةٍ انني جزءٌ منها دون أن أدري.

مشيتُ حافيا راجعا نحو السرير حتى ألتقط هاتفي و أحدق مجددا بتاريخ اليوم حتى أعرف مدى بعدي عن الإمتحانات.. السابعة و عشرون دقيقة، الثامن من أغسطس..طيب.. الموعد يقترب.. أتمنى ألا يصفعني فشلٌ جديد يفسد محاولاتي في مواساة الذات مرةً آخرى.. 

رميت الهاتف جانبا، و قبل أن أغادر الغرفة إستوقفتني مرآتي المعتادة و بدت لي كأنها تدعوني أن أحدق في تشوه عنقي مرة آخرى...

كنت دائما أسأل نفس السؤال.. ماذا لو كانت هذه علامة من علامات حياة أخرى.. ماذا لو إني وُجدت قبل هذا التاريخ بحلة و ملامح أخرى.. إسم و جنسية مختلفين.. مصير و نهاية مغايرة...

لا.. سأمضي قدما.. يكفي من الأسئلة الوجودية التي سوف لن ألقَ منها غير الأصفر في الإمتحانات.. 

يرنُّ هاتفي.. يبشرني صديقي من الكلية أن الأساتذة قرروا أن يضربوا عن العمل، و أنني أستطيع البقاء في المنزل عوض معايشة عذاب المواصلات بلا جدوى.. و كان لجسدي المرهق ذلك، و كان الرجوع إلى النوم هو القرار.

تذكرت لبرهةٍ فور رجوعي إلى الفراش آخر رحلة إلى العالم الإفتراضي.. لقد أحببتُ المحاولة من جديد.. الأمر يكاد يصبح إدمانًا.. إنه لوالله أمتع من العيش داخل هذا العالم الموحش و المادي التعيس. خفت أن تفسد النية متعة وقوعه بمثل مثالية التجربة السابقة.. ففردت أطرافي و جعلتها تستسلم إلى الفراش.. و كان لي النوم الهنيء أجمل مصير. خُيبت ظنوني في زيارة عالم أخترعه أنا، لكنَّ روحي أُسقطت في مجالٍ غريب هذه المرة.. وجدتُني أركبُ خيلا مع ثلة من البالغين.. و أنا، ذلك الطفل المغامر الصغير الذي ظهرت دموع خفيفة أسفل محجريه من الأسى...

كنت أعانق راكب الخيل الذي يقود متشبثا به حتى أحميني من الوقوع.. و كنت أحدق في ذلك الطريق الرملي الصحراوي بصبر، أحاول أن أشهد لحظة الوصول إلى الوجهة التي مازلت أجهلها...

بدأت أسمع محاورة فجئية بين راكب الخيل الأول و الثاني، فيها نبرات صوتية غليظة و خافتة بفعل العمامات المغطية لأفهواهمم.. كانت تزيد الفتى الصغير الذي هو أنا قلقًا و خوفا...
"لسّا ما وصلنا؟"
"الطريق طويلة.. في بعض الكيلومترات كمان.. خليك ماشي." 
 كنتُ أشعر بالتخدير... و كأنهم جعلنوني أتناول مخدرا ما قبل بداية الرحلة.. كنتُ أتابع الرحلة بصبر و إنتظارٍ كبيرين، دون القدرة على تحريك ساكن.. مرت الساعات و كل ما تلاقيه أذني هو صوت عدو الخيول و عصف الرياح صفير الطيور... 
ها نحن أخيرًا نصل إلى الوجهة، هذا ما إستنتجته عندما توقفت الخيول قرب بيتٍ خشبي مهجور كان مغطًى بأغصان الأشجار ..
غادرت المكان إمرأة عجوز بياض شعرها و إنكماش تجاعيدها أرعب الطفل الصغير بداخل و زاده توترا.. كانت تنطق حروفا قليل و جملا قصيرة بهدوءٍ و تعابير وجهٍ شريرة و حاقدة..
"هاد هو؟"
يجيبها المقنعان راكبوا الخيول في صوت واحد "هاد هو."
فور سماعها الرد، تخرج العجوز الشريرة خنجرًا مازال يقطرُ دما رغم إختبائه في جيبها لمدةٍ أجهل طولها.. و تقوم فورا بالتقدم نحو الخيل الذي أركبه و تقوم بطعني مباشرة في عنقي.. صرخت فورا و إنسابت دموعي سريعا.. رفدتُ أنفاسي الأخيرة بصبرٍ قبل أن أستيقظ في بعدٍ جديد عهدته.. فراشي و غرفتي الضيقة.. تحسست بسرعة عنقي، مكان ذلك التشوه.. توقعتُ في الحقيقة دمًا.. لكني لم أشعر بغيره.. و لا شي يجيب تساؤلاتي عن كابوس ممثال غيره.. نعم.. لقد عشتُ حياةً موازية.. و أنا على وشك أن أعيش غيرها كي أموت بشكلٍ آخر يشهده جسد آخر غير هذا الذي أمتلكه، و لعل أنَّ شخصًا آخر سيتسائل عن كيفية موته.. و لعله لن يدرك أبدًا أنني، كنت هو.. لفترة من الزمن.