هذا جون، و هو ربُّ أسرةٍ أمريكية.. إنَّه ذاك الذي يجوب شوارع واشنطن، تحديدًا قرب تلك الكنسيةِ التي صرفوا على بنائها ما يكفي لزيادةِ الفقراء فقرًا... آه، أقصد، ثراءً.
تسألُه راهبةٌ وقفت أمام الكنسية و هي بصدد تدخينِ سيجارةٍ قاربت على الإنتهاء و تقول:
-سيدي، هل لك أن تتبرع للكنيسة ببعض المال، حتّى نتمكن من تحسينها، كي يزيد الناس إقبال عليها، علَّهم يأتون كي يدعوا الربَّ حتّى يُنصف حال الفقراء؟
ينظُر إليها نظرةً لائمةً علَّ دلالتها كانت لوم الراهبة على طلب المال لتحسين الكنيسة، بدل طلبه لإعطائه للفقراء.. و ربَّما لا..ربَّما نظرتَهُ كانت نتاجًا عن طلبٍ إستفزازيٍ. أجاب:
-ما هذا الذي تطلُبينه؟ إستحي يا آمرأة... أنا مُلحد. لا أؤمن بالله، و لا بالأديان، لذا كلَّ الأموال تهدرونها عبثًا... أنصحكِ بترك حياة التدين، إنَّها عبثٌ و إضاعةٌ للوقت، دون جدوى... جرِّبي إرتياد دور الراقصات المُتعرّيات، ستصيرين ثريةً هناك، أعدُك. إلهُك لن يُضيف شيئًا لكِ.
ثمَّ رحل...
في طريقه إعترضَه مُتسوِّلٌ ما... كان جالسًا على كرسيٍ مُتحرِّك، واقفٌ أمام شركةٍ أمنيةٍ ما.. واضحٌ أنَّ إعاقته حرمته فرصةَ أن يعمل. طلب من جون مالًا... فرفضَ إعطائه.
كان جون يقول في نفسه: "لقد إكتضَ البلد بهؤلاء المتواكلين.. المُمثَّلين.. نعم أنا صدَّقتُ أنَّك معقوق، إسأل البقية."
قادتُه أرجلُه إلى بيته... قبَّل زوجته، شَرِب قِدحًا، ثم توجَّه إلى الحمّام، للإستحمام...
أظلَمَ الكون، الأمرُ الذي يُذكِّرُ جون كلَّ ليلةٍ بتقبيل إبنه شون قبل النوم...
توجَّه إلى غُرفةِ إبنه، فكان الفتى متكئًا على سريره رابضًا في وضعية النوم.
-أبي حبيبي، هل من أخبار؟
-لا شيء ما عدا الراهبات الغبيات و المُتسولين المُمثلين...
-عفوًا؟
-لا شيء يا بُني، هاك قبلتك. أنا مُتعب، و أحتاج إلى النوم
-تُصبح على خيرٍ أبي..
-و أنت.
أطفأ نور الغرفة، ثم عاد إلى مضجعه...
بعدَّ أن غطَّ في نومٍ عميق، نعم، ليسَ أعمقَ من نومِ نواب الشعب... إستفزَّت أصواتٌ غريبةٌ متأتّيةٌ من غرفةِ إبنه أُذناه كفاية لأن يستيقظ. زوجَتُه جانبه نائمةَ... و كأنَّه المُستهدف الوحيد من قبل تلك الأصوات...
غادر الفراش، فتح باب الغرفة، فأيقنَ أنَّ الصوت الآتي كانَ بكاءً، حينها قصد حجرة إبنه.
فتح الباب... و إذ به يُبصِر كارثتين... الأولى أنَّ إبنه ليس في الغرفة... و الثانية أنَّ بوابةً ما، تؤدي إلى عالمٍ آخر مَا فُتِحت في الجدار.
الغريب في الأمر أنَّ البكاءَ توقَّفَ لحظةَ فتحه الباب... و كأنَ الرجلَ في لعبةٍ، مُبرمجةٌ بحيثُ يتوقَّف البكاءَ حين يبتلع الرجل الطعم... أ ليس هذا طعمًا؟ و ربما أيضًا هو ليس كذلك...
" عليَّ أن أقرُص نفسي... لا يمكن أن يكون هذا حقيقةً" .. قالها و هو يقرُصُ بطنه مُحدِّقًا في الوقت ذاته في تلك البوّابةِ البشعة المُخيفة... تطور قرصُه إلى نفسه من مُجرد إصبعٍ يحاول إيقاظ الجسم إلى إصبِع بأظافره يحاول أن ينخُر العظام... فالمُسمَّى جون يحاول بكل ما أوتي إليه أن يقنِع نفسه بأن عيناه كاذبتان خادعتان.
عبثًا حاول... لن يُجدي ما جرَّبه نفعًا... و كأنَّ المصير هو أن يعبر البوَّابة.. و كأنَّ المخاطرة هي القدر.
إبتلعَ لُعابه، ثم إقترب إلى البوَّابة...
"ما هذا؟ كيف وصل الكتاب المُقدس إلى هنا؟؟؟ كيف يطفو؟ كيف حارب الجاذبيةَ و لم يسقط؟" قالها و هو يُبصر إلى الكتاب المُقدس... الذي رآه و هو واقفٌ في مدخل البوّابة، و الذي لمِحه في نهايتها... كان جون يقترب فيبتعد الكتاب... تواصل الحال هكذا إلى أن إختفى تمامًا...
"ماذا؟ لعنةُ المسيح؟؟ أ هذه أنتِ؟"
تابع جون طريقه.. يتبع المعبر حتى يعثر له على نهايةٍ... نهايةٌ قد لا يجِدها أبدًا... و قد يجِدُ أيضًا فيه ما يُغنيه على البحث عن النهاية... شيء ما ميتٌ ... شيءٌ ما تعفَّن قبل أوانِه ..في دقائق... على عكس العادة... شيءٌ ما مثل جثَّةِ إبنه."
إنطفأت الأنوار. أو بالأحرى، فقد الرؤية تمامًا، فور رؤيته إبنه ميتًا. كان الجو ممزوجًا بالعتمةِ و صوتِ صراخِ جون و وقعِ خطى رجليه اللتان فقدتا السيطرة بفعلِ الصدمة... إلى أن وقعَ أرضًا... كي يسود الجوَّ الهدوءَ للحظات.
حلَّ الصباح... و كان جون في سريرِه... كانت أشعَّة الشمس تنبعثُ من وراء زجاج النافذة، الأمر الذي أكَّد له أنَّ ما جرى كان مجرَّد كابوس... إلتفت على يمينه فلم يجد زوجته. إلتفت يسارًا بسرعةٍ فلمحها جالسَةً أرضًا قربَ باب الحجرة ... حدَّقت بعينيه و قالت و الرُّعب يجتاحُ وجهها: "لقد مات إبنُنا."
تمّت.