سُلطة البرتقال على البقدنوس (قصة قصيرة)

تحت أشعة الشمس الدافئة في إحدى المُدن الجميلة يُستحب للمرء أن يخرج كي يتنزه في بعض الأماكن العمومية كي يُرفه عن نفسه.. كاثرين إختارت الخروج بسيارتها الفخمة في إحدى الصُبحياتِ إلى أرجاء نفس المدينة، بدايةُ لم تكن لها وجهةُ معينة، لكننا نعرف جيدا ما هي ميولات الفتيات الثريات في صباحٍ جميلٍ كهذا.. لذا، قصدت السوق المغطى كي تشتري بعض الأغراض التي هي ليست في حاجةٍ إليها غالبا.. في المأوى ركنت سيارتها، كانت حمراء اللون ذاتِ إطاراتٍ مطاطيةٍ سوداء لامعةٍ، يُخول لك حين تراها أن صاحبتها تتوقف كل أربعة أمتار كي تلمعها ثم تركب من جديد كي تواصل السير.. نرى إعتناء الشابة كاثرين بعربتها أكثر لمَا لاحظت بقعة غُبارٍ على البلور بعد أن أزاحت عن عينيها ذات اللون القهوي الداكن نظاراتها الشمسية.. فزعت، و كأن شخصا ما قام بإقحام مسمارٍ حادٍ في الزجاج.. فسارعت كي تمسحها بأناملها الرقيقتين و أخذت تفرك الزجاج كما تفرك أمٌ محبةٌ قميص إبنها المُتسخ الذي لا يملك غيره و تنزع عنه بقع الطين الذي علق فوقه بعد أن إختار صاحبه الصغير اللعب بالوحل كي يعوض نفسه عن الطفولة التي أخذها منه الفقر.. أما بعد، فقد قامت بفتح باب العربة و سحبت من درجها محرمةُ معطرةٌ تخلص بها إصبعها من غبار الزجاج..
لمَا فرغت من عنايتها بنفسها و بسيارتها أقفلت الباب ثم دخلت السوق.. هناك، قررت إقتناء بعض الغلال.. عجيبٌ أمرها، من يرى خوفها ذاك على ممتلكاتها يوقن أن لا إهتمام لها في الحياة سوى التجميل و الإعتناء بمضهرها.. لكن ما نراه هو أنها تحمل كيسا من البرتقال، كما نراها تغادر السوق سريعا فكأنها أتت بغاية إقتناء ذلك البرتقال الطازج فقط.. في طريقها إلى المخرج و أثناء شرودها في التدقيق بساعتها الفضية إصتدمت بشخصٍ ما فبعثرت كل ما كان معها من برتقال... صاحت و دون أن تدقق في وجه من جعلها تسقط كيسها قائلةُ :
-أ أنت أعمى؟؟؟ إنتبه لطريقك يا هذا..
كان رجلا لا يبدو أنه يفرق عنها سنّا.. هو من كان سبب هذه الحادثة البسيطة التي ينتهي أمرها بإعتذاره..
جلس الشاب على ركبتيه أرضا بغاية جمع ما إنتشر على الأرض ثم أخذ يبحث عن البرتقالات و كأنه لا يُبصر بالفعل...
قاطعته هي عما كان يفعل ثم صاحت من جديد و كادت عيناها تغادران محجريهما غضبا قائلةُ:
-قلتُ لك إنتبه لطريقك، و لا تبدأ بجمع ما أسقطته لي عمدا فعادات الدراما التركية في جعلي أقع في عشقك لن تنجح معي.
إنخفضت جميلتنا و جثت على ركبتيها هي الأخرى و أخذت تجمع ما فقدته من برتقالٍ.. ثم نهضت و إلتفتت إلى الشاب و قالت له بلهجةٍ فطرت قلبه :
-كم كثر العميان في هذا المجتمع.. أبله.
قالتها و غادرته تاركةُ إياه جالسا على الأرض جامدا لا يتحرك و الدموع تغادر عينيه بغزارةٍ دون رغبةٍ منه ثم قال لها بصوتٍ خافتٍ حنونٍ يملأه الشعور بالأسى:
-آسفٌ يا..آنستي.
إلتفت هي بعد أن سمعته، ثم واصلت طريقه متجاهلةُ إياه.. و عند مغادرتها إعترض طريقها رجلٌ أشيبٌ يضع نظاراتٍ تتدليان على صدره و يداه الإثنتان خلف ضهره ثم قال لها بعد أن رأى ما جرى معها:
-أحسنتِ صنعا يا فاخرة الإطلالةِ أنتِ، ذاك هو فريديريك وانسون و هو شابٌ ولد أعمى، فقيرٌ لكنه لم يمد يده لطلب شفقةِ الناس بتاتا، يحب القدوم إلى هذا السوق لأن أمه توفيت هنا بسكتةٍ قلبيةٍ بعد أن كانت تبيع البقدونس الذي إحتقره الكثيرون أمثالك، يحب التجول في أرجاء السوق كي يستنشق رائحة أمه الراحلة.. سألناه يوما إن كان يريد الزواج.. قال ينتهي الحب بعد رحيل أمي. لذا، لا دراما و لا تركيا في القصة، أرى أنكِ مدينةٌ بإعتذارٍ ما رغم إيماني بأنه لن ينفع. طاب يومك.
رحل الرجل العجوز عن الثرية تلك تاركا إياها في صدمةٍ جعلتها تتمنى الإنتحار مليون مرةٍ مقابل أن تحظى بفرصةِ إصلاح ما قامت به منذ لحظات.. أما فريديريك فقد نهض من عنده و مسح دموعه ثم توجه لإمرأةٍ كانت تبيع البقدونس مثل أمه، أخذ بعضا من ذلك النبات ثم قربه إلى أنفه.. أشبع روحه برائحة تلك النبتة المقدسة، فهي غالبا الأمر الوحيد الذي بقي له من أمه..
تمت.